في كتابه نجوم السينما يقدم لنا الكاتب كمال رمزي اضاءات عن تألق شكري سرحان في عالم السينما يبدأها بفيلم «ابن النيل»، حيث أعاد يوسف شاهين،
اكتشاف شكري سرحان.. فقبل هذا الفيلم كان شكري سرحان قد انتهى من تمثيل خمسة أعمال، بدا فيها كوجه جديد تتوافر فيه شروط النجومية حسب مواصفات الخمسينيات: ملامح متسقة جميلة، شعر ناعم، فاحم السواد، لامع، نظرات هائمة حالمة ومهيأة للحب منذ اللحظات الاولى، وجه صالح للتصوير تماما، سواء من الجانبين أو الأمام، وحضور روحي على الشاشة، وخبرة في التمثيل لا بأس بها، اكتسبها خلال أدواره في فترة دراسته الثانوية ثم على يد أستاذ الأساتذة، زكي طليمات، عندما التحق بالدفعة الأولى من دفعات معهد التمثيل عام 1944، بعد حصوله على التوجيهية.. وكان حينذاك في العشرين من عمره.
قدم شكري سرحان دور الفلاح في «شباب امرأة» لصلاح ابو سيف 1955، و«ارضنا الخضراء» لأحمد ضياء الدين 1955، و«جفت الامطار» لسيد عيسى 1967، و«حكاية من بلدنا» لحلمي حليم 1969، و«حادثة شرف» لشفيق شامية 1971، و«النداهة» لحسين كمال 1975، واذا كان شكري سرحان قد حقق في هذه الافلام ـ وهي على سبيل المثال لا الحصر ـ نجاحات متوالية، ساعده فيها الاداء المتمهل الذي تميز به والذي يتمشى مع طبيعة الفلاحين فان نجاحه الاكبر، كان في دوره كزوج يجبر، بعد ابتزاز شديد، على طلاق زوجته في تحفة صلاح ابو سيف «الزوجة الثانية» 1967.
في «ريا وسكينة» صلاح أبوسيف 1953، يظهر شكري سرحان في دور ثانوي، ولكنه يتمتع بحضور واضح في الفيلم: موظف صغير تعبّر ملابسه غير المنسقة والمهملة، عن نفسية إجرامية على درجة ما من الجبن.. هنا لا يقتل بيديه ولكنه يستدرج الضحايا الى وكر «ريا وسكينة». وتعمد شكري سرحان، مع مخرجه بالطبع، ان يعبر بأدائه عن شخصية باهتة، لا أخلاق لها، ضعيفة، تمهد الطريق لجريمة ينفذها من هم أكثر منه قدرة وقوة.
وفي «درب المهابيل» لتوفيق صالح 1955، يقوم بدور «عجلاتي» يتصارع مع بقية سكان الحارة من أجل انتزاع ورقة «اليانصيب» الرابحة من يد ذلك الأبله الذي حصل عليها بطريقة المصادفة.. وها هو، بفضل الحركة المتدفقة بالحيوية، التي رسمها له المخرج، يعبر عن استعداده للنزال، حتى الرمق الأخير، للاستيلاء على الورقة التي ستهب له المال.. ويقاوم.. في لقطة طويلة، بروحه، وبجسمه الذي تغطيه ملابس تمزقت في أثناء الشجار، وبوجهه الدامي، رجال الحارة الذين ينهالون عليه ضرباً.
واذا كان شكري سرحان قد انبهر بأداء الممثلة الكبيرة «نجمة ابراهيم» عندما عمل معها ـ وفي ظلها في «ريا وسكينة» ـ وظل لسنوات طويلة، يشيد بموهبتها، فإنه التقى بها، مرة اخرى، في «الجريمة والعقاب»، لابراهيم عمارة 1957، المأخوذ عن رواية دوستويفسكي الشهيرة، حيث قام بأداء دور الطالب القاتل، الذي تطارده صورة القتيلة تارة، وحبل المشنقة تارة أخرى.. وها هو يعبر بمهارة، بعيونه الزائغة، المرعوبة والنادمة، عن انفعالاته الداخلية الحادة، المتضاربة.
وكتنويعات على هذه الادوار المتعددة الابعاد، وفي مقابلة، وعلى النقيض من دور النجم الوحيد الجانب، الفقير وجدانياً، المتمسك الى درجة الغرور، قدم شكري سرحان في «احنا التلامذة» لعاطف سالم 1959 شخصية طالب يتورط في الجريمة، ويضيق من حوله الخناق، فيصبح، على الرغم من وقوفه على ارض نفسية صلبة، اذا قيس بزملائه، نهبا للمخاوف.. وها هو في اكثر من مشهد يحاول ان يطمئن المرعوبين من حوله، بينما التماعة الذعر وانطفاءة اليأس تتواليان في عينيه.
ويصل شكري سرحان، في مجال هذه الافلام التي تتعرض لظاهرة الاجرام، الى افضل مستوياته، في «اللص والكلاب» لكمال الشيخ ,1962. ولا شك ان ثراء شخصية سعيد مهران ـ كما كتبها نجيب محفوظ، وصاغها صبري عزت في سيناريو محكم واحاطها كمال الشيخ بلغة سينمائية تبرز اعماقها ـ ساعدت شكري سرحان في التعبير عن دوافعها العاصفة للثأر من «الكلاب» التي نهشته، سياسياً واقتصادياً واخلاقياً.
قام شكري سرحان بدور الضابط في الجيش، في العديد من الأفلام: «بورسعيد» و«رد قلبي» و«طريق الأمل»، والأفلام الثلاثة من اخراج عز الدين ذو الفقار عام 1957 أي عقب حرب السويس، عندما ارتفع نجم ذوى «البذل الصفراء» وأصبح الضابط يمثل فارس هذه السنوات.. وأدى شكري سرحان دور الضابط على نحو رومانسي وقور، متحفظ، أقرب إلى الملاك، يهيم في السماء ولا يمشي على الأرض، واستعان بالطبع بالذات «الكليشهيات» المنحطة.
فيلمان يجدر بنا أن نتوقف عندهما، لأهميتهما.. «امرأة في الطريق» لعز الدين ذو الفقار 1958، و«البوسطجي» لحسين كمال 1968.
كان الدور في «امرأة في الطريق» جديداً بالنسبة لشكري سرحان، وربما فريداً في السينما المصرية، فهنا يؤدي الفنان شخصية زوج ضعيف، نفسيا وبدنيا، لا يستطيع أن يروي ظمأ زوجته لواحظ ـ هدى سلطان ـ التي تعد غريزة تمشي على قدمين، وتعشق أخيه القوي صابر ـ رشدي أباظة ـ وفي محطة بنزين ملحقة بورشة، في قلب الطريق الصحراوي القاسي، تدور دراما عاصفة بين الثلاثة بتفهم عميق، يعبر شكري سرحان عن العجز الروحي والبدني سواء من خلال نظرته المنكسرة، الهزيلة، أمام زوجته، أو من خلال انسكاب البنزين من الخرطوم الذي لا يستطيع السيطرة عليه أو الامساك به بقوة، أو حتى من خلال مشيته المضطربة، التي تعكس ما يعانيه من حيرة وتردد.
أما «البوسطجي» والذي يعد من كلاسيكيات السينما العربية، فإن شكري سرحان يتطور أو قل يعبر عن التدهور الذي يدب في روح ذلك الموظف القادم من القاهرة إلى تلك القرية المنسية في أقصى الصعيد، وفي المشهد الأول يطالعنا بطل الفيلم وهو يسير بنشاط مرتدياً بذلة عصرية في حالة جيدة، حاملاً حقيبة، حليق الذقن، تتابعه الكاميرا، فيبدو كما لو كان أضخم من القرية.. وفي نهاية الفيلم يطالعنا ذات البطل وقد ارتدى «جاكتة» مهلهلة فوق جلباب قذر، وترك شعر ذقنه تنبت وتتشعث، ويسير متخبطا، مهزوماً يمزق الخطابات ويلقيها بلا اكتراث، فتصبح نهبا للريح وبين هذه البداية والنهاية، يجسد شكري سرحان ذلك «الضمور النفسي»، ان صح التعبير، لرجل يفقد حماسته للحياة، بعدما وجدها تهدر بلا قيمة في هذه المنطقة وبعدما ساهم من دون ان يدري في مقتل احدى بنات القرية وخلال الساعتين اللتين يستغرقهما عرض الفيلم، يفقد «البوسطجي» من مشهد لآخر، شيئا من اهتمامه بذاته، وبالتالي ومن دون ان يشعر، يتغير فيه شيء ما، حتى نراه في مشهده الاخير وقد اصبح «مهلهلاً نفسياً» تماما.. في هذا الدور، وفي الادوار التي ذكرنا، يستطيع المتفرج ان يلمح لمعان شكري سرحان الفنان، خلف قناع النجم الذي حجب ذلك البريق عنه في عشرات الافلام!!